السبت، 19 أبريل 2025

رانيا العباسي : وردة الشام في قبضة الظلام

 





في قلب دمشق، حيث تتشابك أنفاس التاريخ مع همسات الحرية، عاشت رانيا العباسي، طبيبة الأسنان التي حملت في روحها نبض الإنسانية، وبطلة الشطرنج التي نافست بذكائها أعتى الأذهان. كانت وردة نبتت بين أحجار الشام، متألقة بعلمها، مشعة بكرامتها، تزرع الأمل في قلوب النازحين وتمد يد العون لمن أنهكتهم رياح الظلم. لكن يد الطغيان، في غفلة من الزمن، اقتلعتها من جذورها، لتغيّبها في متاهات الزنازين مع زوجها وأطفالها الستة، في مأساة تهز أركان الضمير.
يا لها من سيرة تدمع لها العيون! رانيا، المرأة التي اختارت البقاء في أرضها رغم عواصف الثورة، لم تكن مجرد طبيبة أو رياضية متميزة، بل كانت رمزًا للصمود والعطاء. عندما اجتاحت حمص موجات النزوح، فتحت قلبها وبيتها، تقدم الدواء للجرحى والمأوى للشريدين، غير آبهة بتهديدات النظام. لكن النور الذي أضاءت به دروب المحتاجين أثار حفيظة الظلام، ففي الحادي عشر من آذار 2013، داهمت قوات الأمن منزلها في حي دمّر. نهبوا أموالها، وسرقوا ذكرياتها، ثم اقتادوها مع أطفالها الصغار—ديمة، انتصار، نجاح، آلاء، أحمد، وليان الرضيعة—إلى مصير مجهول، بعد أن اعتقلوا زوجها عبد الرحمن ياسين قبلها بيومين.
منذ ذلك اليوم، غابت رانيا وعائلتها في أقبية النظام، حيث يُسحق الأمل تحت أقدام الجلادين. جدران السجون، الباردة كقلوب الطغاة، ابتلعت أنفاسهم، ولم يصل إلى العالم سوى صدى صرخاتهم المكتومة. أطفالها، الذين لم تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة، هل كانوا إرهابيين حتى يُسلبوا طفولتهم؟ ليان، الرضيعة التي بالكاد فتحت عينيها على الحياة، أي ذنب اقترفته لتُرمى في غياهب الاعتقال؟ ورانيا، التي كانت تأشيرات السفر بين يديها، اختارت أن تبقى لتخدم شعبها، فكان جزاؤها الإخفاء القسري، كأن الأرض ابتلعتها وعائلتها.
وسط هذا الجحيم، تظل روح رانيا رمزًا للتحدي. إنها ليست مجرد اسم في سجلات المعتقلين، بل هي صوت يصرخ في وجه الظلم، ونور يقاوم الإطفاء. شقيقتها نائلة، وكل من عرفها، لا يزالون يناضلون لكشف مصيرها، يطرقون أبواب المنظمات الحقوقية، ويرفعون صورها في كل محفل، علّ العالم يستفيق من سباته. حملات منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان، وصيحات الناشطين على منصات التواصل، كلها تحمل اسم رانيا كراية للعدالة، لكن السلطات السورية ظلت صامتة، كأنها تخفي خلف جدرانها سرًا لا تود كشفه.
أيها العالم، كيف لك أن تغمض عينيك ورانيا وعائلتها يعانون في ظلمات السجون؟ إن مأساتها ليست قصة فرد، بل هي وصمة عار على جبين الإنسانية. إنها دعوة لكل ضمير حي أن يهب لنجدة المغيبين، أن يطالب بكشف مصير هذه العائلة التي لم يكن ذنبها سوى إنسانيتها. رانيا العباسي، يا بطلة الشطرنج ويا طبيبة القلوب، إن قصتك لن تموت، فهي محفورة في ذاكرة الشام، تنتظر فجر الحرية الذي سيشرق يومًا، ليعيد إليك وإلى أطفالك نور الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق